مقالة
ثمن الفرصة التي لا تراها العيون
٨ محرم ١٤٤٤ هـ
صافي آل صافي
هل تعرفُ الفارق الأهم بين "روّاد" الأعمال في Twitter، وبين من يعرفون من أين تؤكل الكتف؟
من السّهل أن تنخرط بين الأوائل، أنشئ صفحةً في LinkedIn، تذكّر أن تشبّك كل رأسماليٍّ تتسنّى لك مقابلته، ارتشف القهوة المختصّة وتحلَّ بآرائك عمّا إن كانت الـBitcoin ستستبدل عملات الصرف وما إن كانت Tesla فقاعةً بقيمتها الفضائية، سيحبّك هذا القوم ويتّبعون صفيرك كيفما غرّدت.
والآن، أمعن النظر حولك وستعرف من يعرفون، هنالك من لا يظهرون في شبكات LinkedIn، ولا يتجولون في معارض الرياديين، ولا تتناولهم Forbes في عناوينها. أصحابُ نماذجِ أعمالٍ نقية تقوم على مزايًا تنافسية وتتوجه إلى توسعاتٍ مستدامة. يملكون تقنياتٍ لا يعرفها السوق تُستخدمُ في قطاعاتٍ لا تعترف بالتقنية بعد. يقدّمون حلولًا لمشاكل لا يدرك أصحابها أنهم يواجهونها وأنهم يستحقون أفضل مما لديهم. يعرفون أحياءً مكتظةً تمثل أسواقًا كبرى لا تظهر على رادارات الشركات العملاقة، أولئك من يعرفون من أين تؤكل الكتف.
هؤلاء لا يولدون من العدم، ولا تنهمر ثرواتهم عليهم من وصيّة، وليس لهم أبٌ مستعدٌّ لغمر تهوراتهم التجارية برؤوس الأموال كي يرى فيهم انعكاس طفولته، هم حولك اليوم ومنذ البداية، يحرّكون الاقتصاد ويصنعون التغيير الملموس، ولا تسمع عنهم إلا من أغلفة Forbes بعدما حصلوا على تقديرهم الحقيقي وفات أوان الاستثمار بما صنعوه، وسأذكر لك الفارق الجوهري: من يعرفون من أين تؤكل الكتف؛ يعرفون ثمن الفرصة.
خلف كلّ تفاعلٍ غاضبٍ بين عميلٍ وخدمة عملاء، سؤالٌ خفيّ يتجاذبه الطرفان كما إن كانا يتفاوضان على الإجابة النهائية: كم تكلفة خسارة هذا العميل؟ فالوقت محدود، والوقت من ذهب، وإن صرفته على عميلٍ واحدٍ بلا نهايةٍ فأنت تخسر على هذا العميل أكثر مما تربح من رضاه، وعليه، فلا بد لك من أن تحسب قيمة كل عميلٍ لديك قبل أن تنخرط في إرضائه، ففي النهاية، إرضاءُ الناس غايةٌ لا تدرك.
يحذّر العميل مهدّدًا: "إن خسرتني فلن أعود أبدًا!"، وحسب تقلبات السوق والعرض والطلب يومها، قد يرتعد مقدّم الخدمة تجاه هذا التهديد أو قد يردّ باستسخاف "الرزق على الله"، ولكن هل فكّرت يومًا في الثمن الحقيقي لخسارة هذه الأرباح الموعودة؟
لنأخذ مثالًا: إذا كنت سائق حافلةٍ يركبها خمسون راكبًا، فمن المحتمل إن وفّقك الله في رزقك أن تواجه معضلة "الراكب 51"، يسرعُ هذا الراكب مهرولًا إلى حافلتك، يحلف لك بأنه مستعدٌ لدفع ما فوقه وما تحته إن سمحت له بالركوب، ولا يصدّق أنك لا تستطيع مدّ يد العون له، فالمقاعد الخمسون قد امتلأت.
سيظهر سؤالٌ بديهيٌّ حينها: حافلتك تحمل 50 مقعدًا وتكلفة المقعد عليك هي ريالان، فكم تكلفة المقاعد كلها؟ هل أجبتني "بـ100 ريال"؟ نعم، هذا واضحٌ فلا تتردد، ولكن كم تكون تكلفة مقاعدك إن أردت قبول الراكب 51؟ هل أجبتني الآن: "بـ102 ريال"؟
دعك من هذا، فالسؤال الحقيقيّ الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لم ترحّب بالراكب 51 وتسمح له بالركوب؟ ألا تدرك حجم الفرق بين تكلفة ركوبه وما يعرضه عليك من أرباح؟!
سيجيب سائق الحافلة بأن السؤال بديهي: نعم، كلنا نعرف أن الراكب 51 لا يختلف عن بقية الركاب إلا باستعداده لدفع كل ما يملكه نقدًا مقابل الركوب، وهذا يعني أن ما تربحه منه يغطي تكلفته أضعافًا مضاعفة، ولكن المشكلة التي تمنعه من قبول رجائه هي السعة! فالحافلة ببساطةٍ لا تملك مقعدًا يحمل الراكب 51.
أقول لك: فكّر مرةً أخرى، هل هذا هو سبب رفضك الحقيقي؟ أم أن هذه هي الطريقة الطبيعية التي اعتدنا التفكير بها والنظر من خلالها لعالم الفرص؟
صديقي سائق الحافلة، إن كان ما يمنعك من قبول الراكب 51 هو سعة حافلتك، فالفرصة أغلى مما تتخيّل؛ اشترِ حافلةً جديدةً على الفور! وإن كان ما يمنعك من شرائها هو رأس المال، فسأوفّر لك كل ما تحتاجه من إجراءاتٍ بنكية حتى تحصل على قرضٍ يوفّر لك ما تحلم به، فهل ستدرك وقتها ما غاب عن نظرك؟ وهل تقبل الراكب 51 الآن بعدما توفّرت لك كل وسيلةٍ لتربح ما وعدك به؟
الإجابة الحقيقية هنا: لن تسمح له بالركوب حتى وإن توفرت لك كل السبل، حريٌّ بك ألا تفعل على الأقل، ذلك أنك الآن قد أدركت حجم الفرق بين تكلفة الراكب 51 وما يعرضه عليك من أرباح: خسارةٌ خيالية! فبينما يكلفك كل راكبٍ ريالين ويربحك مثلهما، فسيكلفك الراكب 51 مئات آلاف الريالات من القروض التي اقترضتها لتخدمه بحافلةٍ لن تجد فيها إلا عميلًا مربحًا واحدًا! ركوب هذا الزبون معك يكلّفك أكثر بكثيرٍ من أي زبونٍ آخر: إنها تكلفةُ الفرصة.
مفهومٌ اقتصاديٌّ بسيط، لكل فرصةٍ ثمن، وفي كلِّ ثمنٍ فرصة، إن شئت انتظرها، وستنتظر طويلًا. أو أبصر وراء ما يرون، فمن يعرفون الفرص يعرفون أنها موجودةٌ منذ القدم، لا تبرزُ من العدم، وإن فاتك ذلك، فلن يفيد الندم.
أمعن النظر مجددًا، أنت تقف على أراضي المملكة العربية السعودية، وطنٌ اختصر قرنًا من التطوّر بفضل الله ثم بإدراك المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله، فعندما نظر حوله، لم ينتظر أن تهبط الفرصة الذهبية من السماء، بل لاحظ أن آبار النفط تتناثر في دول الخليج وتندر في وطنه، أصرّ على استخراج النفط وكأنه يرى أسفل الأرض التي يمشي عليها فرصةً تنتظر من هو مستعدٌ للحفر لأجلها.
أنت تعرف أن بئر الخير كان البئر السابع، ولكن ما سبق هذا البئر لم يكن حفر ستّة آبارٍ فحسب، بل سنواتٌ من التكاليف الضخمة المتراكمة، وعقودٌ تجاريةٌ أضنتها حروب اليأس مع الأمل، كان ثمنًا باهظًا ذلك الذي بُذِل في حفر الصحراء، ولكن الملك آمن بمستقبلٍ أرى أنا وأنت فيه الفرصة التي رآها في ذلك الثمن، وها قد رأينا اليوم الذي وقفت فيه أسواق الطاقة العالمية بأسرها وهي تنتظر من وطننا أن ينبس ببنت شفةٍ كي تفرج أزماتها! فالفرصة كما ترى.. ثمينة، ولكن في كل ثمنٍ تدفعه: فرصة.
أريدكُ أن تتذكر هذا، بينما تتصفّح أسعار الطاقة اليوم، تذكّر أن الفرصة كالطاقة تمامًا، فالفرصُ لا تفنى ولا تستحدث من العدم، بل تتبدّل من شكلٍ إلى آخر! كل ما عليك فعله هو أن تقتنص شكلها الذي لا ينفعك، وتحوّله إلى شكلٍ آخر تستطيع استثماره.
فكّر في الأمر، لماذا تضني نفسك بأن تجادل فيما إن كانت عملةٌ كالـBitcoin ستستبدل الدولار أم لا؟ فالفرصة ليست في القيمة التي قد يصل لها الـBitcoin، ما دام هذا النقاش سائرًا بين الناس فسيصعد سعرها ويهبط، الفرصة هنا في كونها مثار جدلٍ يمكن ركوب أمواجه للثراء.
تأمّل في معنى القيمة، فإن فهمته ستفهم الكثير عن الفرص التي تدور حولك، القيمة لا تحدد بوزن الشيء، ولا بصفاته أو نفعه، بل بما يراه الناس فيه. هل من أحدٍ لا يسعى وراء الدولار حول العالم اليوم؟ وما هو الدولار إلّا ورقةٌ خضراء لا تعدو قيمتها أن تكون وعدًا كاذبًا باستبدالها بالذهب؟ رغم ذلك، ما زلتَ على أتمّ الاستعداد لمبادلة كل ما تملك في سبيل الحصول على كمية كافية من هذه الأوراق الخضراء.
قس على ذلك ما تراه من قيمة Tesla التي تتجاوز قيمة شركات السيارات العشر الأكبر في العالم مجتمعةً إن وضعتهم جنبًا إلى جنب، رغم أن مبيعات Tesla لا تقارن بعُشرِ أيٍّ من هذه الشركات، إلا أن القيمة مرةً أخرى، ليست في نفع الشيء، ولا في أرباح الشركة، بل فيما يراه الناس عنها، وهل تعتقد أن الحشود الغفيرة التي استثمرت بها تُقدِّرُ أن الثمن الدقيق لـTesla يُحسبُ من قواعد البيانات التي بنتها وبراءات الاختراع التي اقتنتها؟ إنما الأمرُ أنّ Tesla عملاقة لأن الناس ببساطة؛ يرونها كذلك، ومن نحن لنختلف؟
بعد اكتتاب أمازون، وجدت الشركة نفسها في قاع حفرةٍ من الخسائر، لم تكن الأرباح تغطّي التكاليف حينها، ولكنها لم تغادر الحفرة لتدفن خيبة أملها، بل حفرت أسفلها أكثر! زادت أمازون من مصاريفها سنةً بعد سنة، وكانت الحفرة كل سنةٍ أكبر من سابقتها، حتى وصلت إلى الحفرة-.. عفوًا، السنة السادسة، لربما كنت لتكون أقلّ صبرًا إن كنت من ملّاكها آنذاك، ولكنهم كانوا على أتمّ استعدادٍ لشراء ثمن الفرصة التي رأوها بكل ممتلكاتهم.
فبينما ينظر المراقبون إلى عدّاد النتائج، وفرق التكاليف عن الأرباح، كان ملّاك أمازون ينظرون إلى قيمة الفرصة التي تمثّلت أمامهم، فقد كانت ثرواتهم تتضاعف بينما تكبّدت الشركة خساراتها في كل سنة، وكلّ دولارٍ يصرفونه على تلك الشركة كان يساوي أضعافًا مضاعفةً في قيمتها، وكما تعرف من قصة Tesla، القيمة لا تتعلّق بأرباح الشركة، لأنها ليست رقمًا كتلك الأرباح، بل لمعانٌ في عيون المشترين. وقد تفجّر هذا اللمعان في حفرتهم السابعة، وفار التنّور منذ ذلك العام إلى أن وصل بجيف بيزوس إلى قمة أثرياء العالم، يعرفُ جيف، دون شكّ، ثمن الفرصة.
العالم الذي نعيش به اليوم مكوّنٌ من نقاطٍ من الفرص أشبه بالمحيطات، هنالك من يرى هذه المحيطات بعيدةً كل البعد، تحدّها الشطآن وتغطّيها الأعلام، وهنالك من يرى محيطًا أسفل الصحراء التي يقفُ عليها، تستطيع أن تتوقف هنا، عند عتبة هذا المقال، وتتابع مسيرك في الحياة كما كنت تمامًا، فكلانا يعلم كم هو باهظٌ أن تحفر في خلاءٍ مقفر، وبينما تدفن حفرتك التي تراكمت عليها الهموم، أو تواري استثمارًا أرهقتهُ الديون، حاول أن تتذكّر على العموم: ثمن الفرصة التي لا تراها العيون.
شارك هذا المقال