مقالة
آخر دقيقة من تاريخ البشر
٢١ شعبان ١٤٤٤ هـ
صافي آل صافي
تحكي الروايات الشعبية الإنجليزية عن شابٍ اسمه "نيد"، كان يعمل في مصنع خياطةٍ عندما طالبهُ معلمه بشحذ آلة الحياكة وتجهيزها للعمل، وقف "نيد" وقوف المثقل بهمومه، ومشى بخطواتٍ متكاسلةٍ نحو الآلة، كل همّه كان سداد قوت يومه، ولكن ساعات عمله لا تنقطع عن الزيادة، وأجره لا يكفُّ عن النقصان، فلمّا وصل إلى الآلة وتأمل حالها؛ وجدها تعمل كما يعمل، فلا تكلُّ ولا تملّ، لو أمكنه أن يحدّثها بلغةٍ تفهمها لشرح لها أنه يعود لعائلته الجائعة مثقلًا بهمّ إطعامهم، وتعملُ هي دومًا غير محتاجةٍ لغذاء أو دواء، لكن اللغة الوحيدة التي جمعتهم آنذاك كانت لغة العنف، كان القرار واضحًا، تناول "نيد" مطرقته وهوى على الآلة محطمًا منافسه الوحيد في ذلك المصنع.
أشعلت قصّةُ النديّة والتحدي هذه قلوب العمال في إنجلترا، وراحوا ينسجون من وحيها كل قصّةٍ تخطر على البال عن قائدهم "نيد لَضْ" Ned Ludd الذي غدا رمزًا للحركة اللاضية Luddites. شرع أتباعُ اللاضية في حياكة المؤامرات ضد كل آلةٍ ومصنع، فكسّروا الأجهزة وأحرقوا المكائن، وأعلنوا الحرب على كل ما يهدد معاشهم وأمنهم الوظيفي.
لم تعش اللاضية طويلًا، فقد جُرِّمَ تخريبُ الآلات جنائيًا في تلك الحقبة لإخماد هذه الحرب، ولم يبق من الشعلة التي أثارها "نيد" سوى وصفُ العامة لأي إطار حياكةٍ يكسرُ بالخطأ على أنه: "من بركات نيد" على سبيل السخرية، حاول البشرُ على مرّ العصور أن يتأقلموا مع الظروف الجديدة التي تأتي بها هذه التقنيات، وكانت الرواية الشعبية تطمئن الأطفال: "لا تقلق من الآلة، فهي تساعدك ولا تستبدلك، لا آلة ستستبدل إبداع البشر".. أو هكذا ظننا.
لو أمكننا اختزال تاريخ البشر إلى يومٍ واحد، 24 ساعة تبدأ برجل الكهف وتنتهي بوضعنا الحالي وما وصلنا إليه كأحدث ثانيةٍ في هذا اليوم، فإن الثورة الصناعية قد حدثت بالنسبة لهذا اليوم في تمام الساعة 23:59 م، أما اختراع الإنترنت؟ فهو لم يحدث إلا منذ بضع ثوانٍ، يوضّحُ لك هذا الافتراض كيف انفجر التسارع في تطور البشر، هكذا فجأةً ضمن آخر دقيقةٍ من ساعات هذا اليوم الافتراضي، انتقلنا من إضاءة الظلمة بالشمع إلى تداول العملات عبر الإنترنت.
تمامًا كما انفجر التطور الإنساني في تلك اللحظة، ينفجر الذكاء الاصطناعي محاكيًا ذكاء صانعه اليوم، لو أن هذا الذكاء آلةٌ أتت لتستبدل وظيفةً أو وظيفتين، لقلنا بأن حركةً لاضيةً جديدة ستكفي لتكسيرها وتأمين معاشنا، ولكننا نقفُ أمام عصرٍ جديد، عصر خوارزميات تعلّمِ الآلة، وقد تعلّمت الآلة الآن كيف تستبدل العامل الأخطر: إبداع البشر.
ما الذي يعنيه هذا بالنسبة لقطاع التصميم؟ هذا القطاع الذي غرّتهُ الأماني بأن الإبداع محميٌّ عن سطوة الأتمتة، فما استلزم الأمرُ إلا خوارزميةً واحدة والوصول لبضعة ملايين صورةٍ على الإنترنت لأعمالٍ فنيّة ورسوماتٍ إبداعية، حتى تمكن ذكاءٌ اصطناعي مثل "ميدجيرني" Midjourney من تحويل أي خيالٍ تحلمُ به إلى فنٍّ بأعلى المستويات.
جرّب الآن، تخيّر فنانًا معروفًا أو مجهولًا أفنى سنوات عمره في إتقان حرفته وإبداع أسلوبه، ولن تحتاج إلا أن تُسميه باسمه أو تصف أسلوبه لـ"ميدجيرني" مضيفًا لهذا الأسلوب ما تتخيله من المحتوى، ارسم لي ضفدعًا بأسلوب فان جوخ، أو تخيّله عنصرًا في لوحات رامبرانت، سيصنع لك هذا الذكاء الاصطناعي الفنّ الذي تتخيله بنفس مستوى رسامه، ما أمضى هذا الإنسان عقودًا في إتقانه، تعلّمته الآلة في لحظاتٍ وأنتجته بناءً على طلبك.
ما الذي تبقّى إذن لمصمم الديكور الذي كان يمضي الأيام في تخيّل التحسينات والأفكار لغرف عميله، حتى ظهر موقعٌ يتيح للعميل أن يصور منزله ويدع للذكاء الاصطناعي إبداع أجمل تحسينٍ وترتيب له؟ وكيف تنافسُ شركةٌ معماريةٌ ذكاءً اصطناعيًا بات قادرًا على تحويل أي مخططٍ مبدئي إلى نموذجٍ مكتمل البناء دون تكلفة ولا عناء؟
في وجه هذا الصعود المخيف في كل مهنةٍ وقطاع لوحش الذكاء الاصطناعي، نحتسبُ لأهل الفن والتصميم إبداعهم في التعامل معه، فبدل تحطيم أجهزتهم وتكسير شاشاتهم، وجّهوا الإبداع إلى الاحتياج الجديد، صار الإبداع اليوم في امتطاء هذا الوحش الهائج، وترويضه لمتطلبات البشر، فلم يعد الفنُّ في أن ترسم أسلوبك، بل أن تتقن وصفه في المدخلات Prompts التي تطعمها للذكاء الاصطناعي، وكلما أتقنت هندسة هذه المدخلات كلما زاد الطلب على فنك، فأنت من يحوّلُ الأحلام إلى واقع، وإن تمعنت في الأمر، فلطالما كانت هذه وظيفتك، وكل ما تغيّر هو الأداة.
هكذا نشأت وظائفُ جديدةٌ اليوم: فنانُ ميدجيرني، ومصمم ديكور الذكاء الاصطناعي، ومعماريُّ المدخلات. أولئك الذين يفهمون الآلة وتفهمهم، يتحدثون معها بلغتها الخاصة، ويشرحون لها الخيال فتحوّله للواقع. من يتقن التصميم بهذه الأدوات، يُتقن ما لا يمكن تعلّمه بعقود من التدريب، ويختزل سنواتٍ من التطور والتحسين.
ولكن التحديات لا تنقطع هنا، المؤكد هو أن هذه الآلات لن تستبدلنا جميعًا، على الأقل لن تستبدلنا الآن، سنبقى بحاجةٍ للمبدعين الذين يقودون القطاع وتتغذى الآلات بتعلّم فنهم، وهذا التغذي بحد ذاته، يطرح التحدي الآخر: يعمل المصمم ليكسب قوت يومه ويطعم عائلته، تمامًا مثل "نيد"، ولكن الآلة التي لم تكن بحاجةٍ للغذاء في مصنع النسيج ذاك باتت تأكل الأخضر واليابس، فمن سيطعمها من فنّه؟
هذا هو محورٌ سيقضي به قاضٍ فيدرالي في أميركا، فقد رفعت شركة جيتي Getty قضية حقوق ملكيةٍ بعدما أمضت عمرها في إبداع الصور والرسومات التي تملك حقوقها، لتكتشف بأن شركة Stability AI التي طورّت نموذج ذكاء اصطناعي ينتج الصور من خيالك المكتوب مثل ميدجيرني، قد استعملت 12 مليون صورةٍ من إبداعها في تدريب نموذجها، ورفعت مجموعةٌ من فنانين آخرين قضيةً أخرى مشابهة مطالبين بتعويضاتهم عن انتهاك حقوقهم الفكرية.
يدّعي هؤلاء الفنانون أن حقوقهم منتهكةٌ عندما يصنع الذكاء الاصطناعي تصميمًا مبنيًا عليها، بل وصل الأمر إلى مطالبات شعبية للعامة بمقاطعة هذه النماذج التي تتعدى أخلاقيًا على حقوق المصمم الفكرية، ولكن السؤال الذي أطرحه في المقابل: ألسنا معشر المصممين من مكّن كتاب "اسرق مثل فنان" Steal Like an Artist من تصدّر قائمة الأفضل مبيعًا؟ أليست تلك فكرة الكتاب الذي تزهو به كل استديوهات التصميم كتحفةٍ فنيّة على طاولاتها؟
من قال بأن الفنان البشري قد أبدع من وحي خياله ما يستحقُّ نسبه لنفسه؟ عندما تبدع معماريةٌ مثل زها حديد فنّها فيتهمها "هيلموت يان" Helmut Jahn بسرقة تصميمه، فبإمكانها الإشارة إلى أن ما حدث كان محض صدفةٍ فنيّة، ربما مرّ تصميم هيلموت ضمن جلسة استلهامٍ إبداعية على حديد، فعلق منه شيءٌ في ذهنها، وهذا ما يدعوه المبدعون بظاهرة الاسترجاع الإبداعي Cryptomnesia، وفي قطاع التصميم، نحن نعذر بعضنا إن بدر من مصممٍ هذا التشابه مع من سبقه، فلماذا لا نعذر الذكاء الاصطناعي لنفس السبب؟ مع أن البشري أقرب لاتهامه بالسرقة المباشرة، فمن يستلهم من صورةٍ ويقلدها نعتبره سارقًا بوضوح، ومن يستلهم من ألف صورةٍ لينتج ما تشبه عناصره بضعةً من هذه الصور نعتبره مبتكرًا، فماذا نقول فيمن استلهم من عشرات ملايين الصور لينتج شيئًا لا يمكن لك أن تشبهه بأي سابق؟
كان "جون هنري" John Henry عاملًا في السكك الحديدية، يضرب المسامير بقوّةٍ وسرعةٍ مذهلة، فتحدّاهُ الأصدقاء إلى سباقٍ مع آلةٍ تقوم مقامه وتعمل بالبخار، كانت الآلة أسرع من الإنسان بلا شك، ولكنه رفض الاستسلام، وهوى على تلك المسامير بكل قوته وجهده، ألهمت عزيمته المذهلة وبريق عينيه الجماهير التي التمت لمشاهدة السباق، وقد فعلها هنري! سبق آلة البخار وأعلن انتصار البشر واستمرار هيمنتهم.. في تلك اللحظات على الأقل، شعر بزهوّ إنجازه وافتخر بتفوّقه، ثم سقط هنري ميتًا في مكانه بسبب إجهاد قلبه.
إن كان تاريخ البشر يومًا فعصر الذكاء الاصطناعي قد بدأ في هذه اللحظة، والخيار لك فيما تفعله مع هذه الآلة، لقد هوى "نيد" بمطرقته ليحطم آلته، وهوى "هنري" مهزومًا بثقل مطرقته بعدما حطمته، وهنالك بينهما من يعتبر الآلة مطرقته وأداته الجديدة، من لا يرى فيها منافسًا بل ميزةً تنافسية، إن كنت من أولئك الذين يفهمون هذا الذكاء ويتحدّثون بلغته اليوم، فهنيئًا لك بما تحيكه يداك، وهنيئًا لنا بما سنلبسه من نسيجك.
شارك هذا المقال